المادة    
يقول رحمه الله: "وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة" أي: كل ما تعلق بإنكار المنكر -سواء تعلق ذلك بكبير أو صغير- تجمعه قاعدة عامة؛ يقول رحمه الله: "فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به"؛ لأن المفاسد أكثر، والله تعالى لا يأمر بالفساد، وهذا أصبح أمراً بالفساد، وإن كان في أصله إنكاراً لمنكر هو مفسدة يجب إزالتها، لكن ما دام الإنكار سيحدث أضعاف هذه المفسدة أو أكبر منها، فإن الإنكار حينئذ محرم شرعاً.
يقول: "فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة"، فلا يقل أحد: أنا أرى المصلحة الآن في خروج المرأة للعمل؛ لكي تكفي أولادها؛ لأن الذي يقدر المصالح والمفاسد هو صاحب الشرع، فكل ما خالف دليلاً من أدلة الشرع فهو مفسدة.
والفقه ليس مجرد معرفة الأدلة؛ فكثير من الناس قد يعرف أدلة كثيرة؛ لكنه أن تعرف أعظم المصلحتين فتفعلها، وأن تعرف أكبر المفسدتين فتدفعها، فالقضية تحتاج إلى توازن، وهذا يحتاج إلى فقه.
يقول: "فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر" كالقصة المعروفة عن شيخ الإسلام: كان التتار يدَّعون الإسلام، فلما وجدوا سكارى، أراد بعض الناس أن ينكر عليهم، فقال له شيخ الإسلام: دعهم فلو أفاقوا من الخمر لقاتلوا المسلمين الذين هم على الإسلام حقيقة، أما أولئك فهم يدَّعونه وليسوا عليه؛ فشرب الخمر منكر، لكن إنكاره يؤدي إلى مفسدة، وتركه فيه مصلحة أرجح.
يقول: "وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام" فكل من وفقه الله وفقهه في الدين سيجد من النصوص ما يبين له هل عمله هذا حق أو باطل، وذلك إذا اجتهد وكان لديه الفقه والعلم والبصيرة في أمر الله سبحانه وتعالى، يقول: "وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر" وذلك كما إذا كان هناك فساق؛ جعلوا مسئولين عن حفظ الأسواق، يقال لهم: امنعوا المنكرات في السوق، فإذا رأيتم النساء متبرجات فانصحوهن بالحجاب، وهم أصلاً فساق؛ يترتب على تمكينهم من الإنكار منكرات أعظم مما هو حاصل دون إنكارهم؛ حيث إن الفاسق إذا كلم المرأة أو خلا بها أو عاقبها فقد يحدث منكر، وإذا لم يأمر انتشر التبرج والفساد، فهذان منكران لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، ففي هذه الحالة لا يجوز تمكينهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الواجب أن نسعى إلى الفصل بين المنكر والمعروف؛ بأن يؤتى بالأمناء الثقات، ويمكنوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول رحمه الله: "بل ينظر؛ فإن كان المعروف أكثر، أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر". مثاله: شابان عزبان ذوا خلق واستقامة لا ينبغي لهما إذا رأيا منكراً من امرأة أن ينكرا بأيديهما أو يقبضا عليها، لكن إذا كانا من رجال الحسبة وشاهدا منكراً من داعرة فإنهما يقبضان عليها، مع ما في ذلك من منكر؛ ففي هذه الحالة إنكار المنكر يتضمن شيئاً من المنكر، لكنه أقل بالنسبة لمنكر موجود يمكن أن يتفشى في المجتمع إذا تعطلت وظيفة الحسبة؛ إذ لا بد أن يقبض على الداعرات وإلا عمت الفاحشة، فهذه المفاسد التي قد تخالط الإنكار تتلاشى وتهمل بجانب القضاء على منكر الدعارة والفساد الذي هو أشد مفسدة.
يقول: "ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه" كما لو رأيت إنساناً على بدعة وشرك، فلو ترك البدعة لأشرك، فلا تنكر على بدعته حتى تتيسر لك طريقة تنكر عليه بها الشرك والبدعة، بل لو كان من أهل القبلة وأهل التوحيد وهو مبتدع، فذلك خير من أن يكون من أهل الشرك والعياذ بالله، ثم إن كان على بدعة كبرى وبدعة صغرى، فلا ندعه على هذه البدعة الكبرى من أجل أن ننكر عليه بدعة صغرى، فهذا من الفقه الذي لم تفقهه الخوارج ولا المعتزلة .
يقول: "بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات"، فيأثم من يفعل ذلك من غير تقدير ولا حساب.
يقول: "وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما".
وينبغي مع النظر في الأدلة والموازنة بين المصالح والمفاسد ألا يقطع الداعية فيها برأيه وحده؛ بل عليه أن يستشير غيره، فقد يكون تقديره أن المفسدة في أمر ما قليلة، والمصلحة فيه واضحة؛ فماذا عليه لو استشار إخوانه من الدعاة؟ إذا وافقوه اطمأن قلبه وازداد يقينه، وإذا عارضوه فقد يبينون له من الأدلة على أن المفسدة أرجح من المصلحة ما يتغير معه رأيه نحو الأصوب؛ وذلك خير له من إقدامه على أمر يظنه صواباً وهو خطأ؛ وقد يكون عمله من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على الرافضي في منهاج السنة إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الرسل لاستئصال الشر من العالم، ولو فعل ذلك لما بقي في العالم شر، وإنما للتخفيف منه ما أمكن، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي.